الأحد، 28 ديسمبر 2008

قصة قصيرة ليوسف رفعت - المكافأة

القصة دى القيت فى اللقاء الاول و ننشرها اليوم
انظر الصورة فى بوست (للذكريات روائح) :-)
شكرا يا (جو) على اهتمامك

و مش حافكركم منتظرين تعليقاتكم

المكافأة

"قهوة زيادة بحليب يابنى للاستاذ ......شرفت يا استاذ" قالها القهوجى مناديا على صبيه.
جلست كعادتى اليومية على ذلك المقهى محاولا تضييع الوقت فى التأمل فيما حولى من محاولات لأُناس أخرون لتضييع وقتهم. كثيراً ما كنت أحاول خلال الفترة الاخيرة إلهاء نفسى عن التفكير فى مستقبلى وما سيؤول إليه بعد خروجى على المعاش.لم يعد يتبقى لى سوى يوم واحد وأغادر ذلك المكان الذى قضيت فيه كل شبابى.
فوجئت به يدخل إلى المقهى , صديق عمرى الذى طالما قال الجميع عنه انه لا يفارقنى حتى أنهم يتضاحكون فيما بينهم على الشبه الكبير بيننا . وانا بدورى اعترف ولا اخفى انه يشبهنى تماما , هذا من الناحية الظاهرة فقط . لكننا مع ذلك نختلف تماما فى طريقة التفكير حتى أن ذلك كثيرا ما جلب المشاكل بينه وبينى مما تسبب فى فترات من القطيعة لا تلبث ان تنتهى بمجرد ان تصفى نفوسنا من أسباب الاختلاف .كانت آخر الخلافات بيننا بسبب ما حدث منذ عدة ايام حينما اختلفنا على ما يمكن ان أفعله بعد خروجى على المعاش . هو يعتقد أننى يجب أن أبدأ حياتى من جديد محاولاً إستثمار مكافأة نهاية الخدمة فى المجال الذى كنت أرغب فى العمل فيه حينما بدأت حياتى الوظيفية والذى كنت قد نسيته تماماً نظراً لإنشغالى بوظيفتى الحالية .ظل يؤنبنى لأننى ظللت مشغولاً بوظيفتى الحالية لمدة خمس وثلاثون عاماً متناسياً خلالها أننى كنت أتمنى العمل بالمجال الذى أحبه والذى ظللت أبحث عن عمل به لفترة بعد تخرجى من الكلية.طوال حديثنا كنت ادافع باستماتة عن وجهة نظرى باننى بعد خروجى على المعاش يجب ان استريح واتفرغ فقط لكيفية الاستمتاع بإنفاق المكافأة.
بادرت بمد يدى بالسلام . تناولها ببرود فقد كانت نفسه ما يزال يعتمل بها اسباب الخلاف .
جلس بجوارى . مرت بضعة دقائق تسيد فيها الصمت على الفراغ بينى وبينه, بادرنى بسؤاله :
- ايه اخبارك؟؟ كويس ؟؟
- يعنى . زهقان شوية . مش عارف ليه !
- لأ . انت عارف ليه
- تقصد ايه؟؟
- قصدى انت عارفه كويس . واتكلمنا فيه من كام يوم . وكان السبب فى آخر زعل ما بيننا.
- يوووه . انت مش هاتبطل تهاجمنى . طول عمرك وانت بتعاملنى بالشكل دة .هوة فيه ايه يا اخى. هوة احنا مش اصحاب برضه
- ايوة اصحاب وعشان كدة انا بعمل الى انا بعمله دة.ولا انت ناسى ان انا اللى كنت بشجعك دايما عشان تتغلب على ترددك الغبى ده وتحسم مواضيع وتاخد قرارات هى اللى خلت حياتك احسن.
- لأ مش ناسى . بس انت اللى عايزنى انفذ كلامك دايما بغض النظر عن انه صح او غلط
- وهو انا عمرى شرت عليك بشورة غلط. هاتلى مرة واحدة دة حصل . دى حتى المرات اللى انت ما شورتنيش فيها رجعت تعيط وتقوللى مش عارف اعمل ايه. يا اخى افهم بقى ان انا عايز مصلحتك
- وهى مصلحتى انى اصرف المكافآة فى مشروع برضه . ده انا ما صدقت خلصت مدة خدمتى . عايزنى ارجع اخدم تااانى.
- انت مش هاتخدم ولا حاجة . دة انت اخيرا ها تبقى حر نفسك وتعرف تعمل اللى عايزه . يا اخى عيش الحبة اللى باقيينلك حر بقة . انت ايه ما زهقتش من العبودية والشغل عند الغير. بقالك خمسة وتلاتين سنة عبد . ايه ما زهقتش؟
- ومين قالك انى مش هابقى حر .دة الواحد على الاقل هايبطل يفكر فى الشغل ومشاكله .
- انت عمرك ما فكرت فى شغل ولا دياولوه .لو كنت فكرت لحظة واحدة كان زمانك بتعمل اللى انت كنت بتحبه. انت من ساعة ما اشتغلت وبقالك كارت مكتوب عليه انك شغال فى الشركة دى وانت عامل زى الثور اللى مربوط فى ساقية وقاعد يلف حوالين نفس النقطة وهو مش عارف بيعمل ايه ولا رايح فين ولا عمره حتى فكر يقف ويسال نفسه .لانه لو كان عملها اكيد كان هيكتشف انه مكانه ماكانش المفروض يبقى بيلف فى الساقية.
- الساقية اللى انت بتتكلم عنها دى هى اللى خليتنى اعرف اكل واشرب والبس واتجوز واربى ولادى
- "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان" . انت كسبت كل اللى انت بتقول عليه لكن خسرت نفسك. انت ناسى الحزن اللى جواك اللى سببه ان انت عمرك ما كنت بتختار اى حاجة وكلامك لى إن إنت طول عمرك مصيَّر مش مخيَّر . إفتكر الحزن ده وهو هيكون الدافع ليك ان انت تعمل حاجة باختيارك لاول مرة .
- ومين قالك يا اخى ان ده هو اختيارى
- مين اللى قاللى ! . انت ناسى انى اعرفك من ساعة ما اتولدت . انا اقرب واحد ليك واكتر واحد يعرف اللى انت مخبيه جواك . انا انعكاس ليك فى مراية الزمن
هوت جملته الاخيرة على لسانى كمطرقة ثقيلة محطمة الكلمات المتحفزة على طرفه ناثرة حروفها فى فراغ فمى .
صمتٌ وطال صمتى , نظرت إليه ملياً . تفحصت ملامح وجهه الذى لم يترك الزمن مليمترا واحدا فيه الا وقام بالنبش بين خلاياه .
فوجئت بمدى التطابق فى ملامحنا, فوجئت اكثر بمدى التطابق فى هيئتيتا الجسديتين .
تفحصت ملابسه بدهشة شديدة ! كان يرتدى نفس القميص ونفس البنطال الذين ارتديهما.
تصاعد هاجس غريب الى عقلى . مِلتُ برأسى يميناً ثم يساراً , فوجئت به يحرك رأسه بنفس حركات رأسى ,تملكتنى دهشة شديدة اغلقت جفناى محاولا طرد ذلك الهاجس المستحيل حدوثه.
انتفضت على احساسى بيد تلمس كتفى.فتحت عيناى على اتساعهما , فوجئت بالقهوجى يقف امامى . كانت شفتاه تتحركان ولكنى لم اكن اسمع شيئاً. حدقت فى وجهه لثوانٍ ,سرعان ما بدأ صوته يتضح ويلمس طبلة أذنى :
- يا أستاذ.....يا أستاذ ... يوووه. انت رجعت تكلم نفسك تانى ولا ايه ؟ ..القهوة أم حليب
احسست بتزايد سرعة الدم داخل جسدى وتوجهه الى قدماى مولداً بهما طاقة حملتنى على ان انهض فجأة وبداخلى قوة هادرة ظللت افتقدها لخمسة وثلاثون عاماً.عاجلنى القهوجى بتساؤله :
- رايح فين يا أستاذ ؟
نظرت اليه بهدوء شديد واندفعت الكلمات من فمى يصاحبها سرور وغبطة غير عاديين :
- رايح اكسَّر الساقية ! ....سلام
انعقد حاجباه لثوانٍ وهو يتأملنى بذهول ثم سرعان ما هز كتفاه مجيباً:
- انت حر .... سلام
يوسف رفعت

هناك تعليق واحد:

ست الحسن يقول...

القصة ممتعة فعلاً
والنهاية فاجأتني
والعنوان في مكانه
لأنه خلاني أفكر هل مكافأة نهاية الخدمة هي المكافأة المادية
ولا المكافأة انه يتصالح مع نفسه
فيها عمق فعلاً

وعجبتني كلمة القهوجي
يعني حسيتها مناسبة للشخصية وبسيطة