الأحد، 25 يناير 2009

قصة قصيرة لـ(وائل طه) - رسالة اخرى

رسالة أخرى ……

و الموت .. في فنجان قهوتنا و في مفتاح شقتنا ..
وفي أزهار شرفتنا ..
و في ورق الجرائد ..
و الحروف الأبجدية ..

من قصيدة بلقيس لـ(نزار قباني)

***

ترددت كثيراً قبل أن أضغط زر جرس الباب القابع أمامي في جمود يرمقني ..
برغم أني اخشي ما أنا مقدم عليه ، ألا أني لا أجد حلاً أخر ..
منساق ..‍‍‍‍!!
جائز .. و لكن يعزيني أمانة حملت بها ..
لحظات ، و أنفرج الباب ، لتطالعني منه عينان شابتان تتواري ورائه ، يملؤها التوجس ..
كنت قد اعتدت ذلك الشعور الذي ينتاب الناس حينما تقع أعينهم على عيني المصابة … اعتدته حتى أني لم انزعج لتلك النظرة التي سرعان ما أطلت من عينيها ..
فجفني ساقط على عيني في خمول الموتى ، مغلقاً إياها تاركاً شقاً رفيعاً لا أكاد استبصر منه ..
أخر مرة أبصرت بوضوح من تلك العين كان " دبشك " البندقية يهوى في الهواء متجهاً نحوها بإصرار همجي .. وقتها شعرت بأن ما حولي يبطئ سرعته .. و لم اسمع سوى صوت البندقية و هي تشق الفراغ بقاعدتها تجاهي .. أخر ما رأيته قاعدة " الدبشك " و هي ادني من قاب قوسين من عيني ..
لم أشعر بألم عند ارتطام البندقية بعيني ، فقدت الوعي فوراً ، و انتبهت بعدها على ألم لا يطاق يجتاح رأسي .. و من يومها و عيني هكذا ..
و تعودت بعدها أن استعمل عيني الأخرى لأبصر بها …

- " ماذا تريد ..؟؟"

انتبهت على صوتها ، و حانت منى نظرة إليها .. تمام كما وصفها لي .. الجبين الوضاء ناصع البياض ، حتى انك تتبين عروقها الزرقاء من تحت جلدها ، و العيون الواسعة .. تبدو كقمر مكتمل ساطع تحيط به أهدابها الطويلة .. تحرسه كما لو أنها سهام منطلقه .. و الأنف الصغير الذي لا تكاد تتبينة في وجهها ..
ألا أكثر ما علق بذاكرتي منها هو عيناها ، و نظرة التساؤل التي تطل منها ..
مددت يدي و أخرجت المظروف الذي احمله بعناية في جيب قميصي العلوي ، و ناولته لها .. و سطحه لأعلى و أثار الصمغ الرديء الذي غلف به تلوث حوافه ، و الكلمات المكتوبة بخط مرتجف : ( إلى زوجتي ) .. تتبدى لي و تحتها إمضاءه ..
ما أن رأته حتى تناولته مني و أفسحت لي مكاناً و أشارت لي قائلة :
- " أدخل …"
و قبل حتى أن أكون بكامل جسمي داخل المنزل ، شرعت هي في إغلاق الباب ورائي ..

وقفت أتأمل محتويات الشقة البادية لي .. هنالك منضدة طعام بدون أي مقعد حولها ، قطعتان أو ثلاثة من " الانتريه " الذي حال لون قماشه و اهترء في بعض الأماكن ، خيطت برقع من قماش أخر حال لونه بدوره ..
أشارت لي أن اجلس
-" تفضل .. "
و تركتني و جرت هاتفه نحو أحد الحجرات ، تستدعى إحداهن و تخبرها بأخبار عنه .

****

حتى و هي تضع تلك النظارة الطبية ، و تلصقها بعينها تكاد لا تراني .. ربما أبدو لها في هيئه شبح من وسط دموعها لا تتبين ملامحه ..
جالسه أمامي تستمع إلى صوت المرأة الشابة و هي تقرأ الخطاب بصوت عال .. أحياناً يبح صوتها و ينحبس من أثر البكاء ، فتصمت لثوان لتتمالك أنفاسها فلا يتعالى أثنائها سوى صوت نهنهتها هي و العجوز ..
ثم تعود لتستكمل القراءة ………
و رغماً عنى يتراجع صوتها ليغدو في أخر وعى ، كأنه قادماً من كون أخر .. و أتذكره ..
أتذكر أول مرة رأيته فيها ..

حين هوت قذائفهم علينا لتبيد من تبيد .. ، حاصرونا ..و انهالت علينا رصاصاتهم ، تحصد من تحصد ، و لما قتل معظمنا ، و احكموا هم علينا حصارهم ..
كنت أرى زملائي يموتون ببطء ، و لا اقدر على أن أمد لهم يد العون ..
كنت كثيراً ما أراه بجواري يحتضن بندقيته ، مستلقياً على بطنه .. يحتضن الأرض ، يحكم التصويب ، و بضغطه زناد كان يسقط احدهم ، و سرعان ما يتسلل إلى مكان أخر .. ليحتضن الأرض و يحكم التصويب ..
فجاءه أراه مستلقي بجواري ، و في الدقيقة التالية أراه في مكان أخر ، .. و بعدها يغيب عن نظري ..
توطدت علاقتنا معاً ، حدثني عن زوجته الشابة و مدى عشقه لها ،و عم أمه العجوز ، و عن أبيه الذي قتل في حرب سابقه ..
أخبرني كم هم مشتاق لرؤية طفلته المنتظرة .. ، حدثني عن عمله قبل أن يأتي إلى هنا .. و عن نفسه .. حدثني و حدثني .. و حدثني ..
كان دائماً على يقين من أننا سننتصر ..
- مهما طال الحصار سننتصر ..

اتفقنا على أن كل من سيكتب خطاب لأله ، و نتبادلها ، و من يخرج مننا سيقوم بتوصيل خطاب الآخر لذويه ..
أذكر لهفته البادية في عينيه و هو يسلمني خطابه ، و يأخذ منى خطابي .. و شبح ابتسامه نسى كيف كان يرسمها يجاهد ليطفو على ملامحه .. تبدت للحظات و سرعان ما زالت تاركه مسحة الحزن تلك .
كانت تلك آخر مره أراه فيها .. طالما تذكرته .. بقى دائماً في ذاكرتي و شبح تلك الابتسام يجاهد على شفتيه ..

****

أعادني صوتها و هي تطلق تنهيدتها من بحر ذكرياتي المتلاطم هذا .. جلت بعيني الوحيدة في وجوههم ..
سألتني المرأة الشابة :
- " هل هو بخير ..؟ "
- " هل سيأتي قريبا ؟ "
- " … هل .. "
- " … هل .. "
- " … هل .. "
تزاحمت الأسئلة و احتشدت داخل أذني .. وجدتني أجيب عليها كلها بهمهمة مبهمة على أنا نفسي ، و إيماءة من الرأس لا تعنى الإيجاب و لا تعنى النفي ..
- " … هل .. "
- " … هل .. "
تعددت الأسئلة و نفس الإجابة ..!!

****

كنت أعتقد أني حين أنتهي من مهمتي هذه ، سأزيح ثقل تلك الأمانة عن كاهلي .. و لكني كنت وأهم .. زادتني مهمتي عبء على عبئي ، و روحي تنوء بما احمله بداخلها …
- " آه …… "
أطلقها لاهبة .. تكاد تحرق شفتاي ، و أمامي تعدو إحداهن و هي ممسكة رضيعها ، و يتناهى إلى مسمعي أصوات صفارات الإنذار ..
لم تتوقف غاراتهم الهمجية عن تمزيق مدينتي ..
تتوالى الانفجارات ، تقترب أحياناً ، و تبتعد أحياناً .. و لكنها تتوالى بإصرار..
المح السنة الدخان الأسود تطعن السماء الصافية ..فتتجهم و تكفهر ، و أشتم رائحة الموت ، يفرد جناحيه على كل ما حولي ..
يعدو الكل من حولي ، محاولاً أن يتخذ ساتر له يقيه اثر تلك الغارة .. بعضهم ينظر لي مندهشاً ، و أنا واقف وسط الشارع أتابع ما يحدث من حولي .. و بعضهم يحثني على الاختباء في اقرب مكان ..
.. و من بعيد أرمق حوض زهور في أحد الأركان ، تتوسطه زهرة وحيدة متفتحة يانعة ، فأحسم آمراً في نفسي و أتجه نحوه .. أقتطف الزهرة ، أتأمل أوراقها في احتضانها لبعضها بحنان ، قطرات الندى لم تجف عليها بعد .. أستنشق عبيرها ، أستنشقه و أملأ صدري به ، أختزل ما يمكن اختزاله بداخلي ، لثوان ، و أخرجه زفرة ارتياح طويلة ..
و أنفصل عن واقعي ..
أمد يدي إلى جيبي ، و اخرج مظروف أخر ، استوثق من العنوان المكتوب عليه ، و أمضى في طريقي ،
و تتباعد أصوات الانفجارات و صفارات الإنذار ، لتغدو متشابكة مبهمة في أخر وعى ، لا أكاد حتى أتبينها …

وائل طه
القاهرة ــ جده
2006- 2008

ليست هناك تعليقات: